كشمير من جديد في واجهة الصراع.. صراع نووي وجيوسياسي على حافة الانفجار
عادت منطقة كشمير إلى الواجهة العالمية كواحدة من أخطر بؤر التوتر في آسيا، بعد تجدد المواجهات في مروج الهملايا، والتي أعقبتها تحركات عسكرية هندية مكثفة. هذا الإقليم الجبلي المتنازع عليه بين ثلاث قوى نووية — الهند، باكستان، والصين — لطالما كان مسرحاً لصراع تاريخي طويل يمتزج فيه الإرث الاستعماري بالتنافس القومي والديني والجيوسياسي.
ولفهم أبعاد الصراع الكشميري بعيداً عن عناوين الأخبار العاجلة، لا بد من التعمق في الجذور المعقدة لهذا النزاع الممتد، الذي لا يدور فقط حول الأرض، بل أيضاً حول الهوية، والمصالح الاستراتيجية، والموارد المائية، والموقع الجغرافي الحيوي في قلب جنوب آسيا.
البداية تعود لـ179 عامًا.. الجذور الاستعمارية لنزاع كشمير بين الهند وباكستان والصين
تعود جذور أزمة كشمير إلى عام 1846، حين وقّعت بريطانيا الاستعمارية “معاهدة أمريتسار” بعد هزيمة إمبراطورية السيخ، ووهبت بموجبها السيطرة على الإقليم الجبلي للمهراجا غلاب سينغ، الحاكم الهندوسي لإقليم جامو. ورغم منح السلطة الاسمية له، بقيت الإدارة الفعلية بيد بريطانيا حتى انسحابها من شبه القارة الهندية عام 1947.
مع نهاية الاحتلال البريطاني، كان على أكثر من 500 ولاية أميرية تحديد وجهتها: إما الانضمام إلى الهند أو إلى باكستان. المهراجا هاري سينغ، الحاكم الهندوسي لإقليم كشمير ذي الأغلبية المسلمة، حاول تبني الحياد، لكنه اضطر لطلب الدعم العسكري من الهند إثر هجوم مسلحين مدعومين من باكستان. الهند اشترطت التنازل السياسي الكامل لكشمير مقابل الحماية العسكرية، فوافق الحاكم على الانضمام رسميًا إلى الهند.
طالبت الأمم المتحدة حينها بإجراء استفتاء في كشمير لتقرير مصيرها، إلا أن هذا الاستفتاء لم يُنفذ قط. ومنذ ذلك الحين، أصبحت كشمير مقسّمة، حيث تسيطر الهند على نحو ثلثي الإقليم، بينما تدير باكستان الثلث المتبقي.
وفي عام 1962، دخلت الصين على خط الأزمة بعد خوضها حربًا مع الهند، استولت خلالها على منطقة “أكساي تشين” الاستراتيجية، وهي جزء مرتفع من منطقة لداخ الشرقية، ولاتزال حتى اليوم تحت الإدارة الصينية، رغم أنها جغرافيًا جزء من ولاية جامو وكشمير الهندية.
الصين.. اللاعب الخفي في نزاع كشمير المعقد
لم تعد أزمة كشمير تقتصر على الهند وباكستان، بل دخلت الصين بقوة إلى المشهد، مضيفة بعدًا جيوسياسيًا ثالثًا يعقّد النزاع الإقليمي. فقد مثّلت سيطرة بكين على منطقة أكساي تشين خلال حرب عام 1962 مع الهند، أكثر من مجرد نصر عسكري؛ حيث تمكّنت الصين من تأمين طريقها الاستراتيجي G219 الذي يربط إقليم شينجيانغ (تركستان الشرقية) بالتبت، والذي يمر عبر الأراضي المتنازع عليها.
تعتبر الهند أن أكساي تشين جزء لا يتجزأ من أراضيها، بينما ترى الصين أنه إقليم خاضع لسيادتها. ولم تكتفِ الصين بالموقع الجغرافي، بل عزّزت حضورها عبر ضخ استثمارات ضخمة في إطار مشروع الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني (CPEC)، الذي يخترق منطقة غيلغت-بلتستان الخاضعة لإدارة باكستانية، والواقعة ضمن الأراضي التي تعتبرها الهند جزءاً من كشمير.
ورغم ادعاء الصين الحياد في ملف نزاع كشمير، فإن وجودها الفعلي سواء في أكساي تشين أو من خلال شراكتها الاستراتيجية مع باكستان، يؤكد أن الأزمة لم تعد مجرد خلاف ثنائي بين الهند وباكستان، بل تحولت إلى نقطة التقاء مصالح القوى النووية الآسيوية الثلاث.
كشمير.. بؤرة صراع عسكري وسياسي متكرر
شهد إقليم كشمير اندلاع حربين بين الهند وباكستان، الأولى في عام 1965 والثانية في عام 1999، والمعروفة بحرب “كارغيل”، وقد خرجت الهند منتصرة عسكريًا في كلتا الحربين، لكنها لم تتمكن من إنهاء التوتر المزمن في الإقليم.
تشير التقديرات إلى أن أكثر من 45 ألف شخص لقوا مصرعهم جراء المواجهات العسكرية والصراعات مع الجماعات المسلحة منذ اندلاع الأزمة، ما يجعل كشمير إحدى أكثر مناطق العالم اضطرابًا أمنيًا.
من وجهة نظر الهند، تمثل كشمير رمزًا للعلمانية الهندية، حيث تُعد الإقليم الوحيد ذو الأغلبية المسلمة (حوالي 60%) ضمن اتحاد يهيمن عليه الهندوس. أما باكستان، فترى أن كشمير كان يجب أن تنضم إليها منذ البداية كجزء طبيعي من الدولة الإسلامية التي تأسست عام 1947.
وإضافة إلى الجانب الديني والسياسي، فإن كشمير تُمثل ممرًا جغرافيًا حيويًا يربط بين جنوب آسيا وآسيا الوسطى وغرب الصين، مما يجعلها ذات أهمية استراتيجية لكافة الأطراف المتنازعة.
إلغاء الحكم الذاتي في كشمير وتداعياته السياسية والديموغرافية
في عام 2019، اتخذت الحكومة الهندية بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي خطوة مثيرة للجدل بإلغاء المادة 370 من الدستور، وهي المادة التي منحت ولاية جامو وكشمير حُكماً ذاتياً منذ انضمامها إلى الاتحاد الهندي عام 1947. هذا الإجراء التاريخي ألغى الامتيازات الدستورية التي كانت تحظر على غير سكان الإقليم امتلاك الأراضي أو الاستفادة من الحقوق الخاصة، مما أثار موجة من الجدل والاحتجاجات في الأوساط الكشميرية.
وبعد الإلغاء، تم تقسيم الإقليم إلى منطقتين اتحاديتين: “جامو وكشمير” و”لداخ”، وجُعلتا تحت إدارة الحكومة المركزية مباشرة. أثار هذا التحوّل الدستوري والسياسي مخاوف كبيرة من محاولة تغيير التركيبة السكانية، حيث يخشى السكان المسلمون من فتح الباب أمام الهجرة الهندوسية إلى الإقليم، في خطوة قد تهدف إلى إعادة رسم الهوية الثقافية والديموغرافية للمنطقة.
ورداً على هذه التغييرات، فرضت السلطات الهندية قيوداً أمنية مشددة، وتم نشر أكثر من 600 ألف جندي في كشمير، مما جعلها واحدة من أكثر المناطق عسكرة في العالم. وقد انتقدت منظمات حقوق الإنسان الوضع الأمني والقيود المفروضة على الحريات، بينما استمرت نيودلهي في اتهام باكستان بدعم الجماعات المسلحة والانفصالية في المنطقة.
تصاعد التوتر في كشمير مجدداً في 2025
تفاقم النزاع في أبريل 2025 بعد هجوم دموي في منطقة بهلغام أسفر عن مقتل 26 مدنياً، مما فجّر جولة جديدة من التوتر بين الهند وباكستان. سارعت الهند إلى اتهام إسلام آباد بالوقوف خلف العملية، وردّت بسلسلة من الغارات الجوية استهدفت مواقع تقول إنها تعود لجماعات متطرفة داخل الأراضي الباكستانية.
وفي أعقاب التصعيد، شهدت العلاقات الدبلوماسية بين الجارتين النوويتين تدهوراً حاداً، حيث لوّحت كل من الهند وباكستان بتجميد الاتفاقيات الثنائية، وقامتا بتخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي وطرد دبلوماسيي الطرف الآخر.
هذا التصعيد الأخير يعكس هشاشة الوضع في كشمير، التي أصبحت ساحة صراع مستمر لا تهدأ، وتمثّل نقطة اشتعال إقليمية تهدد استقرار جنوب آسيا بأكمله، خصوصاً مع تداخل الأطراف الدولية والإقليمية في تفاصيل النزاع.
القدرات النووية في جنوب آسيا: رادع استراتيجي أم خطر داهم؟
يمتلك كل من الهند وباكستان ترسانة نووية تُعد من أكثر أدوات الردع حساسية في المنطقة، حيث تعتمد الهند سياسة “عدم الاستخدام الأول” (No First Use)، بينما تتبنى باكستان استراتيجية “الردع الكامل”، ما يمنحها حق الاستخدام المبكر للسلاح النووي في حال تعرضها لما تعتبره “تهديدًا وجوديًا”. ووفق التقديرات الحديثة، فإن باكستان تمتلك ما بين 170 و200 رأس نووي، فيما تحوز الهند حوالي 170 إلى 172 رأساً.
ورغم تبادل الطرفين قوائم المنشآت النووية سنوياً، فإن كليهما لم يوقع على معاهدة عدم الانتشار النووي (NPT)، ما يعزز القلق الدولي من نشوب صراع نووي غير محسوب، خاصة في ظل الأزمات المتكررة.
وقد أظهرت التجربة، لا سيما خلال أزمة 2019، أن البلدين يميلان إلى استخدام الردود المحدودة لتجنّب حرب شاملة، إلا أن تصاعد التوتر الداخلي والضغط الشعبي في الهند، على سبيل المثال، قد يدفع صانع القرار إلى خيارات أكثر تصعيداً في المستقبل.
ردود الفعل الدولية ودور القوى الكبرى
في ظل انشغال القوى الكبرى بأزمات الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، لا يبدو أن هناك رغبة دولية في اندلاع حرب جديدة في جنوب آسيا. ورغم أن الولايات المتحدة حافظت على اتصالاتها مع كل من نيودلهي وإسلام آباد، فإن الصين – رغم امتلاكها مصالح مباشرة في أكساي تشين – اكتفت بالدعوة إلى ضبط النفس. كما ناشدت دول الخليج ومجموعة السبع الطرفين بعدم التصعيد، لكن دون خطوات حاسمة على الأرض.
نزاع كشمير.. عقدة تتجاوز الحدود
أثبتت أزمة كشمير عبر العقود أنها ليست مجرد بقايا استعمارية، بل تحوّلت إلى نقطة اشتباك معقّدة بين ثلاث قوى نووية: الهند، باكستان، والصين. الصراع لم يعد يدور فقط حول الحدود أو الانتماء الديني، بل أصبحت الطرق العابرة للقارات، مشاريع الطاقة، التحكم بمنابع المياه، والتحالفات الاستراتيجية عناصر أساسية في موازين القوى.
ومع تزايد النفوذ الصيني في المنطقة عبر مشروع الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني (CPEC)، وتعقيد الملف الأمني والديموغرافي داخل كشمير نفسها، فإن الوصول إلى تسوية نهائية يبدو أكثر صعوبة من أي وقت مضى.